الفكر الاسلامي وعلاقته بالفلسفة
( الجزء الثاني و الاخير )
خالد عزيز الجاف برلين
ان الفلسفة هى محاولة فهم طبيعة العالم ، وماوراء العالم ومكاننا ومصيرنا فيه. ودراسة قوانين التغير والتطور ومشكلة فهم القوى الفاعلة فى العمليات التى نحن جزءا منها . وهى الام التى صدرت عنها سائر العلوم حيث انها قديمة قدم العقل الانسانى. ومنهم من يعتقد انها مجرد تمارين ذهنية لبعض الناس المتعلمين . ولكن الفلسفة سجلت طوال تاريخها الطويل خلاصة الفكر الانسانى وعصارة الجهود العقلية والتى تتابعت على مسرح الاحداث والفكر الفلسفى.
إن أي فلسفة تعتمد على البرهان المنطقي الذي هو عمادها , وعلى العقل الذي هو جوهر خلقه الله مرتبطا فى الكائن العاقل , وهو الإنسان , وغايته فى الوصول إلى الإدراك والفهم لقوانين الوجود وتسخيرها لغايتين , وهما الأيمان بالخالق المطلق وعبادته , ومعرفة إرادته ومشيئته , وثم تسخيرها لمصلحة الكائن العاقل . وكان واجب الفلاسفة دائما أغناء فهمنا هذا وتعميم نتائجه وهذا ما حاول عمله كبار الفلاسفة القدماء فى العصور الماضية ولقد كان مدى عظمتهم دائما يقاس بمدى نجاحهم فى التعبير فى تعميماتهم الفلسفية.لقد ظهرت الفلسفة قديما فى اليونان مع أفلاطون وأرسطو وكان من اهم مباحثها وميادينها هو)مبحث المنطق(.وهو من المباحث الرئيسة للفلسفة وجوهر الميتافيزيقا وهناك مشكلات أساسية يضطلع بدراستها )علم المنطق( حين يثبت من بطلان التفكير او زيفه وحين يتحقق من صحة القول وصوبه ولذلك قيل إن المنطق هو الأداة التي تميز الصواب عن الخطأ للمنطق . إذن وظيفته ضرورية فى عمليات التفكير حيث يحكم بين الصواب والخطأ وهو يتصل بدراسة مشكلة التفكير الانسانى حين نسأل كيف نفكر ؟ وكيف نحكم على الأشياء تلك هى المسائل الجوهرية التى يدور حولها المنطق ويضطلع بالرد عليها والانشغال بها. ولهذا السبب كان المنطق هو )المقدمة الضرورية( لكل فلسفة وهو جوهر الميتافيزيقيا )علم ماوراء الطبيعة( اى انها بحث من مباحث الفلسفة يبحث فيما وراء الوجود حيث يقول ارسطو ان الفلسفة هو )علم الفكر( ولما كان المنطق هو علم الفكر فأنه يبدأ اول مايبدأ بدراسة طبيعة الفكر وقوانينه وبديهياته واصوله. ومن مباحث المنطق الرئيسية دراسة مشكلة )التصورات والاحكام( فالتصورات التى ترتبط بالواقع مثل تصورنا مثلا لاشياء مادية وواقعية او تصورات اخرى لاترتبط بالواقع المحسوس مثل تصورنا للحرية والانسانية والمسؤلية كلها تصورات مجردة عن الواقع.
اما الاحكام فهى قضايا نصدرها للحكم على الواقع اما كليا او جزئيا ومن المسائل الجوهرية فى دراسة المنطق مسألة )التعريف والتصنيف( وتعريف الشىء هو البحث عن ماهية الشىء والماهية هى مجموع الخصائص والصفات التى يتصف بها هذا الشىء. وان ماهية الشىء تبقى هى هى لاتتغير. اما التصنيف وهو مبدأ عقلى خالص ولايتصل بالواقع ، وله احتمالين ولاثالث لهما ، وهو مبدا)الثالث المرفوع( ، تلك هى نظرة سريعة تشير الى بعض مشكلات ومباحث المنطق . إن المنطق هو جوهر الفلسفة ومقدمتها الضرورية ، اذ إن المنطق هو هيكل كل فلسفة . ومن مباحث الفلسفة ايضا )مبحث المعرفة( ، وهو اهم اجزاء الفلسفة وارحب ابوابها ومعاقلها. ونظرية المعرفة يعالج فيها الفيلسوف مسألة مصادر المعرفة الانسانية ، حين نسأل كيف نعرف؟ وكيف ندرك؟ وماهى مصادر الادراك واصول المعرفة؟ وهل ترجع المعرفة الى العقل ام الى التجربة والحس؟ . ومدركاتنا هل ترجع الى اصول واقعية ام مثالية؟ . واذا ماتتبعنا مسألة المعرفة عند الفلاسفة ، وجدناها تبحث وتدرس من حيث طبيعتها اهى حسية ام عقلية؟ . وهنا ستختلف المذاهب الفلسفية فى شرح هذا الموضوع ، فذهب العقليون الى البحث عن الصور الفطرية الكامنة فى العقل ، وذهب التجريبيون الى إن التجربة هى الاصل الوحيد لمبادىء العقل الاولية.
فالفيلسوف اليونانى ابيقور يؤمن بالحس ، وقد تأثر بالفيلسوف دقويطس وافكاره المادية ، ويقول إن العقل نفسه يعتمد فى الحكم على الاشياء ، ويؤكد إن المعرفة الحسية صائبة ، وان توهم الانسان هو الذى يصور له إن الحواس كاذبة او غير دقيقة فى الحكم على الاشياء .
اما الفيلسوف كانت فقد عالج طرق التفكير وتطور العقل الانسانى عبر التاريخ فى مسألة )مناهج التفكير الانسانى( ، ولقد اعلن كانت إن العقل الانسانى يمر بمراحل او بحالات او بأطوار بدأت اولا بالمرحلة اللاهوتية او الدينية ، ونشأت عنها الفلسفة اللاهوتية الدينية ، ثم انتقلت الى حالة الميتافيزيقية ، اى ماوراء الطبيعة ، وهى الفلسفة المثالية ، ثم انتهى العقل البشرى فى نهاية المطاف الى الحالة او النزعة الوضعية او العلمية ، وهى الفلسفة الوضعية او العلمية. واصبح المنهج الوضعى هو منهج التفكير العلمى. وقد جاء كانت بقانون الحالات الثلاث ، حيث حاول فيه إن يشرع لمناهج الفكر قانونا عاما ، يفسر تقدم الذكاء الانسانى ، ويعبر عن تطور اشكال الفلسفات والمناهج المتتابعة خلال التاريخ. وقد ذهب كانت بمقتضى هذا القانون إن منطق الانسان ، بمعنى فكره او عقله انما يتدرج او يتطور مع تدرج المجتمع وتطوره ، من حالة غيبية لاهوتية الى حالة ميتافيزيقية انتقالية ، ومن ثم يصل العقل الانسانى فى النهاية الى مرحلة الروح الوضعى. ولذلك كانت الفلسفة الميتافيزيقية فى زعم كانت ماهى الا مرحلة تتسم بالضرورة والحتم ، ذ تحتمها ضرورة الانتقال من المنطق اللاهوتى الغيبى كى يصل الفكر بفضلها الى وضعية العلم ، لتى اطلق عليها )الروح الوضعى( ، ولكن النزعة الوضعية فى ذاتها انما تحمل فى طياتها هدفا ميتافيزيقيا خالصا لم يخضعها لاختبار دقيق . ويمكن تقسيم الفلسفة الى مدرستين.
1-المدرسة المثالية. اعتبر جميع الفلاسفة إن مهمة الفلسفة هى الكشف عن طبيعة )المطلق( اى الحقيقة النهائية والتى هى وحدة لاتتجزاء ولاتعتمد فى وجودها على اى شىء وان هذا المطلق كان بمعنى من المعانى روحيا. إن )المطلق الروحى( وحده كان الموجود الحقيقى بينما كان العالم )غير حقيقى( مجرد مظهر. إن الاشياء المادية لم يكن لها وجود مستقل عن الروح المطلق وان جميع تجاربنا ونشاطاتنا التى تبدو معها اننا نحيا حياة مستقلة فى عالم مادى لم تكن الا جزءا صغيرا من الوجود الكلى الروح المطلق.
2-المدرسة الوضعية. الا إن بعض فلاسفة الوضعية الحديثة امثال مور ورسل ومدرستهما رفضوا هذه الفكرة المثالية وواصلوا البحث لاعادة عرضها بشكل اخر فى رفضهم مفهوم )المطلق الروحى( حيث قالوا بأن الفلسفة المثالية هى فلسفة لااساس لها من الواقع بالمرة لقد رفضوا كالمل فكرة إن )الحقيقة النهائية( بل فقط وجود اشياء مادية متعددة. والوضعيون اعتبروا إن المثالية المطلقة لم تكن الا تعابير ايمانية مضطربة ولكن نقدهم مع ذلك كان مثاليا ايضا ذاتيا وشكلا. لقد لعبت الفلسفة الوضعية دورا هاما فى الكفاح الايديولوجى للفلسفة المثالية ضد الفلسف المادية فى العصور الحديثة وخلفت ورائها مجموع الجدل الفلسفى بين المادية والمثالية. إن نظم المثالية المطلقة التى كانت شائعة فى الجزء الاخير من القرن التاسع عشر كانت مرتبطة بالفلسفة والنظام الهيغلى. حقا إن الفلاسفة الوضعين قاموا بتطوير وتبنى الافكار المثالية القديمة التى نشأت فى القرن السابع عشر واعادوا صياغة هذه الافكار واستعملوها بطرق جديدة واعطوها مظهرا جديدا واصبحوا يجادلون فى الافكار التى تلقوها عن اسلافهم القدماء ويكيفونها ويطورونها باستمرار والفلسفة الوضعية المعاصرة هى تطور للفلسفة المثالية الميتافزيقية القديمة وقد ساهمت حقا فى تقدم الفكر الانسانى وقدمت افكارا يجب اعتبارها دائما كجزء من تراث الفكر المثالى لانها تقدم لنا اربعة عناصر
العنصر الاول. حيث ساهمت مساهمة قوية فى علم المنطق الشكلى الارسطوطاليسى وبالتالى فى دراسة اسس الرياضيات وذلك لان التطورات الحديثة للرياضيات مرتبطة كل الارتباط بتطور تكتيك المنطق الرمزى
العنصر الثانى. حيث قدمت خدمة عظيمة لتطور الفلسفة وذلك بجلب الاهتمام لدراسة اللغة ومهمتها فى اداء المعانى والاوجه اللغوية من العلم فاصلحت الفلسفة )تحليل اللغة( كأسلوب للنقد والايضاح
العنصر الثالث. حيث ساهمت مع الفلسفة البراغماتية )العملية( فى التأكيد على الصلة بين النظرية والتطبيق. واصبحت الفلسفة الوضعية الوسيلة والاداة للتفكير فى ارتباطها بين النظرية والتطبيق وفى تطوير تكنيك منطقى لوضوح الرأى حيث ضمنت لنا امكانية اختبار اقوالنا فى التجربة والتطبيق كما ضمنت لنا الاشارة الى الاشياء التى يمكن التثبت فى وجودها.
العنصر الرابع . حيث كافحت من اجل وضوح التفكير والنظرة العلمية للمشاكل وذلك بتأكيدها على الحاجة للتعاريف المحددة بالاصطلاحات المستندة الى التجربة والحاجة لاختبار الافكار اختبارا تجريبيا ..
بينما النظرية الماركسية فأنها تريد من الفلسفة إن تصبح ملك الجماهير وسلاحها النظرى فى كفاحها لانهاء الاوضاع التى تضطهدها وايجاد الطريق لتحررها ويقول انجلز )إن الفكرة العظيمة الرئيسية بان العالم يجب إن لايفهم كمجموعة معقدة من الاشياء الجاهزة بل كمركب من العمليات التطورية تمر فيها الاشياء التى يبدو عليها انها ثابتة مع انعكاساتها الذهنية فى رؤوسنا اى المفاهيم فى تغيرات لاانقطاع لها من الظهور والضمور وحيث يتأكد فيها بالرغم من جميع الصدف الظاهرة والمراجعات الموقتة تطور تقدمى فى التحليل الاخير . إن هذه الفكرة العظيمة الاساسية قد استطاعت التفاعل فى الوعى الاعتيادى خاصة منذ زمن هيجل بدرجة من الشمول والعمق بحيث انها بمجموعها لم تنقض اطلاقا الا نادرا( ففى نظر انجلز إن )الفكرة العظيمة الرئيسية ( فى التغير والتطور من الادنى إلى الاعلى تمثل الذروة التى بلغتها الفلسفة البرجوازية اى الفلسفة المثالية الميتافيزيقية . فالفلسفة فى نظر ماركس وانجلز هى اكتشاف القوانين الدايلكتية لعمليات التغير والتطور القائمة فى العالم المادى الحقيقى فى الطبيعة والمجتمع .
لقد حاولت الفلسفة الماركسية المادية إن تحدث ثورة حقيقية فى الفلسفة الا انها فشلت فشلا ذريعا فى ذلك فلم تستطع إن تترك وراءها الفلسفة الكلاسيكية المثالية لتبدا فلسفة جديدة قائمة على المادة المحسوسة . لقد حاولت الفلسفة المادية إن تنفذ اكثر الانجازات العظيمة للفلسفة المثالية لكبار الفلاسفة فى القرن الثامن عشر فلاسفة الفرنسيين من جهة وفلسفة هيجل من جهة اخرى . فالفلسفة المادية الفرنسية تعتبر بان العالم وكل شىء فيه انما هو عملية تطورية مستمرة من التغير والتطور وان هذه العملية تجرى بموجب قوانين يمكن اكتشافها من قبل العلم وصاغتها بكل دقة علمية .
اما هيجل فقد ساهم فى الفلسفة بمفهومه عن الدايلكتيك ويقول )بأن كل شىء يحيط بنا يمكن إن ينظر اليه كلحظة فى مجموع الدايلكتيك . ونحن نفهم بان كل شىء محدود انما هو قابل للتغير وموقت بل إن يكون ثابتا ونهائيا وهذا بالضبط مانعنية بذلك الدايلكتيك المحدود حيث برغم المحدود بأعتباره يتضمن ضمنا ماهو مختلف عنه إلى التحول فجأة إلى نقيضه بعد إن يضيق بكيانه الخاص المباشر او الطبيعى( وهيجل لم يعتبر إن )لحظة الديالكتيك ( هى قوانين الديالكتيك فى تغير وتطور العالم المادى فقط كما تعتبره الماركسية وتركز عليه بل ركز وتصور إن الحركة الدايلكتية كخصيصة من خصائص الفكر . انه جعل الفكر كشىء مطلق (الله) شىء موجود بعيدا ومستقلا عن العالم المادى الا انه يخلق العالم المادى ويحقق ذاته فيه ويقول هيجل إن كل شىء محدود مناقضا لنفسه بصورة جذرية ويتحول فجأة لنقيضه فالمفهوم نفسه كان مناقضا لنفسه إن الشىء الذي حقق ذلك المفهوم لم يكن بالامكان إن يبقى ثابتا بل كان يجب إن يتحول إلى شىء اخر . واعلن هيجل إن (المرحلة التأملية) من الفكر كانت اعلى جميع المراحل وان (الحقيقة التأملية) كانت اعلى جميع الحقائق ثم اضاف (بأن الحقيقة التأملية تعنى إلى حد كبير جدا نفس مايسمى عادة فى بعض المبادىء والخبر الدينية بالتصوف) وعليه فان مفهوم هيجل الفلسفى يعبر عن (الفكرة المطلقة) التى تمثل الفكر الكونى والخالق للعالم الحقيقى فى المكان والزمان الذي يتجاوز اى عقل محدود . اما انجلز فيقول فى رده على هيجل (حسب هيجل إن الدايلكتيك هو التطور الذاتى للمفهوم .