استفادة الحضارة الغربية من الفلاسفة العرب
لقد استفادت الحضارة الغربية كثيرا من فلسفة وأفكار ابن رشد ، وابن سينا، والفارابي ، وابن خلدون، ويكاد المؤرخون العرب يجمعون على إن الحضارة الغربية ماكان في إمكانها إن تتقدم لولا كتابات هؤلاء الفلاسفة العرب بالدرجة الأولى . إن أفكار ابن رشد لم تشكل عاملا ذا أهمية في نهضة العرب في الوقت نفسه، لان ابن رشد وابن سينا والفارابي وابن خلدون إلى حد ما كانوا خارج الثقافة العربية الإسلامية التي رفضتهم. فقد كانت الثقافة في ذلك الوقت ، وتلك المرحلة غارقة في فتاوى الفقهاء والمحدثين من طراز الغزالي وابن تيمية والشافعي و الاشعرى وغيرهم ، ولم يأخذوا من فلسفة ابن رشد الأشياء المهمة وترك الأشياء المنافية للثقافة الإسلامية ، مثلما لم يأخذ الغرب من ابن سينا خرافاته عن الأرواح الشريرة ، بل آراؤه في العقل فقط . أن الغرب استفاد من الجانب الارسطى-الاغريقى عند ابن رشد ، واخذ منه فكرة التوفيق بين الشريعة والفلسفة ، اى بين الوحي والعقل كسبيل إلى التقدم والنهضة ، بينما كان الفقهاء العرب يرددون في ذلك الوقت عبارة (من تمنطق فقد تزندق).
فقد رد الغزالي على كتاب) تهافت التهافت( لابن رشد بكتاب )تهافت الفلاسفة( لم يكن ليختلف كثيرا عن توما الاكوينى الذي ظل يهاجم ابن رشد إلى أن تمكن من استصدار مرسوم كبير في سنة 1270 يدين فيه ابن رشد وأفكاره , ويحرم تداولها ولاسيما قوله بأزلية العالم وعدم خلود الروح . وهكذا انتصر الغزالي على ابن رشد , وساهمت سيطرة الفقهاء على الفكر في تنمية عوامل الركود والتخلف في الأمة العربية والإسلامية .
.لقد ابتلى الإسلام بشتى الخرافات والأساطير وشتى المذاهب أتته من الفلسفة اليونانية ، قد عالج ذلك بعض علماء الإسلام ، ولكنهم لم يستطيعوا قلعها وقمعها ومحاربتها ، مع أن الإسلام ينهى عن كل خرافة وكل مالا يؤيده العقل والمنطق الصحيح ، الحجة القطعية ، وينهى عن إتباع الظنون والتخيلات الواهية والنظريات التي لاتستند على دساتير رياضية رصينة ، تؤيدها التجارب بصورة مطردة ، إنما هي أهواء ورغبات تتجلى بصورة العلم. ولاننسى التهم التي أطلقت جزافا إلى الفلسفة الإسلامية ، حيث قيل أنها أسهمت إسهاما بالغا في إفساد الحياة الفكرية للأمة الإسلامية . والحقيقة لايمكن استخلاص نتائج يقينية في هذا الصدد . فخرج من المسلمين فلاسفة بحيث أصبح لايذكر الفلسفة إلا ذكر أئمة المسلمين في هذا الميدان ، حتى قيل أن الفلسفة من علوم المسلمين ، حتى روجر بيكون الفيلسوف الانكليزي كان يتعجب من الرجل الذي يريد أن يبحث في الفلسفة مثلا وهو لايعرف اللغة العربية .
ومن هنا نرى إن الفلاسفة المسلمين هم أول من ارسوا الفلسفة على قواعد متينة من العلم والمعرفة ، وقدموا الآراء الفلسفية لاتقل عن أراء أرسطو . وما أروع الإنسان الكامل عندما يجمع العلم والإيمان والمعرفة معا في نفسه وروحه وفكره وهذا مافعله الفلاسفة المسلمين . والكندي هو أول من اشتهر بالفلسفة بين المسلمين. لقد اخذ المسلمون منذ القرن التاسع في التوفيق بين كلام الله في القران الكريم ، إن استيعابهم للفلسفة اليونانية في نسق فكرى يحتكم إلى العقل ، ونشأت مدارس المعتزلة في بغداد والبصرة ، انتهجوا الفلسفة اليونانية وحاولوا التوفيق بين القران والعقل ، لا إنهم اتهموا بالهرطقة والزندقة والتجديف . وقد انتهى فلاسفة المعتزلة إلى إنكار القران معيارا يحتكم إليه ، باتخاذهم منطقهم هو المعيار الأعلى الذي إليه يحتكمون ، فقد جعلوا الله سبحانه ذاتا عقلانية بحتة )العقل الأول( مجردة من الحياة . هذا الاتجاه العقلاني مبنى على مبادئ أرسطو الفلسفية .
وقد بلغ أشده على يد ابن رشد في القران في الثاني عشر الميلادي ، لذي وضع كتابه )مناهج الأدلة في عقائد الملة( ، للبرهنة على العقائد برهنة عقلية ، فأنه يقف على قدم المساواة في الفلسفة مع أرسطو ، ما اعترف به المؤرخون أمثال العالم بيكون الذي قال عنه )ابن رشد فيلسوف متين متعمق صحح كثيرا من أغلاط الفكر الانسانى ، وأضاف إلى ثمرات العقول ثروة قيمة لايستغنى عنها بسواها ( ويقول عنه رينان )القي أرسطو على كتاب الكون نظرة صائبة مفسرة وشرح غامضة ، ثم جاء ابن رشد فألقى على فلسفة أرسطو نظرة خارقة مفسرها وشرح غامضها( وكان ابن رشد دائما ينشد الحقيقة ، ويدعو إليها فقد قال ) يجب علينا إذا القينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان ، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك ، ما أثبتوه في كتبهم فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه ، ماكان غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم ، علينا أن نستعين على مانحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك ، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا في الملة ، أو غير مشارك في الملة فأن الآلة التي تصح بها التزكية ليس يعتبر في صحة التزكية كونها آلة المشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة) لقد أثارت فلسفة المعتزلة ارتياب علماء الدين المتشددين الذين كانوا مستنيرين بالأفلاطونية الحديثة ، حيث ربطوا الفلسفة بالتصوف طريقا نورانيا لمعرفة الله ، كالفيلسوف الفارابي وابن عربي وابن سينا.
الذي وصل إلى اعلي درجات التصوف الاسلامى . وقد قرأ ابن سينا كتاب( ماوراء الطبيعة) لأرسطو ولم يفهم مافيه ، ويقول بهذا الصدد (ايست من نفسي حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظا ، وقلت هذا كتاب لاسبيل إلى فهمه( . وقاد الفارابي اكبر حركة فلسفية في العالم في زمانه ، وأكثر المؤرخين يطلقون عليه اسم فيلسوف الإسلام ، ويقول عنه المؤرخ وببروج) أن أرسطو والفارابي على قدم واحدة من المساواة( ويعتبر حجة المنطق وأستاذ الفلسفة وعالم ماوراء الطبيعة .
وقد عرف الفارابي المنطق بقوله ) المنطق هو العلم الذي نعلم به الطريق التي توصلنا إلى تصور الأشياء والى تصديق تصورها على حقيقتها ( ويعرف كيف أن الفلسفة توصل إلى المنطق فيقول ) وأقوال لما كانت الفلسفة إنما تحصل بجودة التمييز وكانت جودة التمييز إنما تحصل بقوة الذهن إنما تحصل متى كانت لنا قوة بها نقف على الحق انه حق يقين فتعتقده وبها نقف على الباطل انه باطل يقين فتجنبه ونقف على الباطل الشبيه بالحق فلا نغلط فيه ونقف على ماهو حق في ذاته وقد أشبه بالباطل فلا نغلط فيه ولا نخدع والصناعة التي بها نستفيد هذه القوة تسمى صناعة المنطق( اما أبى عثمان الجاحظ يقول عنه الشهرستانى في كتابه الملل والنحل ) كان من فضلاء المعتزلة والمصنفين لهم وقد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة وخلط وروج كثيرا من مقالاتهم بعباراته البليغة وحسن براعته اللطيفة . ومذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة ألا أن الميل منه ومن أصحابه إلى الطبيعين منهم أكثر منه إلى الإلهيين) ومن أهم رجال المعتزلة الآخرين هو القاضي عبد الجبار احمد بن عبد الجبار المتوفى عام 414 هجرية وهو أعظم شيوخ الاعتزال في عصره .
والمعتزلة يلقبونه قاضى القضاة. ويقول عنه الشهرستانى (الرجل فلسفي المذهب ألا انه روج كلامه على المعتزلة في معرض الكلام فراج عليهم لقلة معرفتهم بمسالك المذاهب).
اما الاتجاه المضاد أو المدرسة الاشعرية فأنها فندت المقدمات المنطقية التي أقامت المعتزلة عليها صرح فلسفتها تلك المقدمات المنطقية التي تفترض أن الإدراك الحسى والمنطق وسيلة إلى معرفة ماوراء الطبيعة . وجعل أبو الحسن الاشعرى المتوفى عام 324 هجرية زعيم ألا شاعرة من الفلسفة خادمة للدين بل صرح بأن كافة أبحاث الميتافيزيقيا أو ماوراء الطبيعة بما في ذلك أفكار قوانين السببية هراء لاطائل تحته ومن اشهر كتبه (مقالات الإسلاميين) يقول (الإنسان إذا فكر في خلقته من اى شيء ابتدأ وكيف دار في أطوار الخلقة طورا بعد طور حتى وصل إلى كمال الخلقة وعرف يقينا انه بذاته لم يكن ليدبر خلقته وينقله من درجة إلى درجة ويرقيه من نقص إلى كمال علم بالضرورة أن له صانعا قادرا عالما مريدا إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع لظهور أثار الاختيار في الفطرة).
وجاء بعده أبو حامد الغزالي فأتم ما بدأه الاشعرى إلى أن الكون حادث مستقل في وجوده عن قانونية مرتبطة بالله وان الناس لن يحيطوا علما بخلق الكون ألا بما شاء الله أن يحيطوا من علم . وقد تلقت الفلسفة التأملية في المرحلة النهائية ضربة قاضية أدت إلى تصفيتها في الختام والاجتهاد عليها من قبل الغزالي بكتابه ( تهافت الفلاسفة ومقاصد الفلاسفة) والذي كتب ماوراء الطبيعة الذي دفع ابن رشد بعد مرور قرن واحد إلى حملة مضادة أعادت للفلسفة حيويتها وذلك بكتابه (تهافت التهافت) في الرد على الغزالي . ومنذ ذلك الوقت لم تعطى الفلسفة الجواب الشافي في معرفة الله وخلقه وتصاريفه الذي لايمكن للبشر الإحاطة به عن طريق العقل وإنما يؤخذ من الوحي والقران والأحاديث النبوية دون الاغترار الفلسفي . أن أبو حسن الاشعرى هو الذي قرع النواقيس إيذانا بموت الفلسفة لأنهم هم الذين أدركوا استحالة البرهنة العقلية على صحة قانون العلية وهم الذين طوروا النقد الجذري لنظرية المعرفة والتفتوا إليها وارسوا دعائم ذلك النقد . ولا يغيب علينا أن مدرسة )أخوان الصفا( وعلمائها وأبحاثهم تقوم على أسس علمية تفوق أبحاث العصر الحديث في متانة أصولها. وعمق الجوهر الذي تصل إليه هذه الأبحاث وقد ألفوا دائرة معارف شاملة لمختلف العلوم والفلسفة. وكان أول من يشتغل منهم بالبحث لابد من أن يجيب على تسعة أسئلة في كل ما يحاول درسه وقد أصبحت هذه الأسئلة الدستور الذي يسير عليه علماء المسلمين في أبحاثهم ودراستهم وهذه الأسئلة هي
هل هو ؟ ماهو ؟ كم هو ؟ كيف هو ؟ أين هو ؟ متى هو ؟ لم هو ؟ من هو ؟ اى شيء هو ؟ .
وكل هذه الأسئلة تبحث عن علوم غيبية مرتبطة بالفلسفة. وجاء الفقيه أبى الفتح محمد عبد الكريم ابن أبى بكر الشهرستانى )479 -548 هجرية( الموافق تاريخ وفاته في 1153 ميلادية ،هو من أكثر أئمة الفقه والعلم علما وكان إمام عصره في علم الكلام وبرع في الفقه والأصول ويقول عنه كارادى الفرنسي )أن عقلية الشهرستانى لم تكن في جوهرها ألا عقلية فلسفية( وذهب الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى أن الشهرستانى من أهل الفلسفة الإسلامية الذين يستشهد بآرائهم مثله مثل ابن سينا. اما هابر كر الالمانى فيقول )بوساطة الشهرستانى في كتابه الملل والنحل نستطيع أن نسد الثغرة التي في تاريخ الفلسفة بين القديم والحديث( وقد قسم رجال الفلسفة حسب عقلياتهم في المعرفة إلى .
1- من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول وهم السوفسطائية.
2- ومنهم من يقول بالمحسوس ولايقول بالمعقول, وهم الطبيعية.
3- ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولايقول بحدود واحكام. وهم الفلاسفة الدهرية.
4- ومنهم من يقول بالمحسوس والمقول والحدود والإحكام ، ولايقول بالشريعة والإسلام. وهم الصابئة.
5- ومنهم من يقول بهذه الأشياء كلها إلا إنهم يعتبرونها من شريعة محمد ولا يقولون أنها شريعة الإسلام. وهم اليهود والنصارى .
6- ومنهم من يقول بهذه الافكار كلها . وهم المسلمون .
وقد امرنا القران بالاعتماد على التدبر ويكره من الناس أن يمارسوا حياتهم على أساس من الظن والوهم أو على أساس من الهوى والغرض ويحب لهم دائما أن تقوم الممارسة على أساس من العلم والمعرفة والعقل لان الظن والتخمين لايثبت أبدا أمام العلم والعقل والمعرفة حيث كان القران يطالب المعارضين له والمشركين دائما تقديم الدليل العلمي المثبت لصحة ما يذهبون إليه من رأى وهذا الإصرار من القران على أن العلم هو الأساس الأول لمعرفة الحياة وممارستها وليس الظن أو الوهم أو الفروض النظرية .
ويقول سبحانه تعالى )قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وان انتم ألا تخرصون) ( وما يتبع أكثرهم ألا ظنا وان الظن لا يغنى من الحق شيئا أن الله عليم بما يفعلون)(مالهم به من علم ألا إتباع الظن)(يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا( والحكمة هنا العلم الصحيح يكون صفة محكمة في النفس حاكمة على الإرادة والحكمة التي يعطيها الله للإنسان تتم عن طريق العقل مع توفيقه لحسن استعمال هذه الإله في تحصيل العلوم الصحيحة.
فالعقل هو الميزان القسط الذي توزن به الخواطر والمدركات ويميز به بين أنواع التصورات والتصديقات فمتى رجحت فيه كفة الحقائق طاشت كفة الأوهام. فالحكمة هي العلم الصحيح المحرك للإرادة الإنسان وآلة الحكمة هي العقل السليم المستقل بالحكم في مسائل العلم فهو لايحكم إلا بالدليل . ويقول الراغب الاصفهانى في كتابه)المفردات في غريب القران( إن العلم هو إدراك الشيء بحقيقته والمعرفة تستخدم في العلم القاصر الذي يتوصل إليه بالتفكير والتدبير.
اما مايجىء عن طريق العقل فلا يسمى علما إلا إذا كان علما بحقائق الأشياء وكان يقينا لاظنا ..ومن هنا يجب من إعطاء العقل دوره والاعتراف بحدوده وضمن المجال الذي يسعه العمل فيه فالعقل كالبصر لايعمل إلا إذا وصل بنور الكتاب والسنة فلابد للعقل أن يخضع لهما لان العقل يحتاج إلى ميزان ثابت يفيء إليه يعرف عنده مدى الصواب والخطأ. فأعمال العقل هو فهم الكتاب والسنة وليس التحكم يهما كما يحاول أصحاب النزعة الفلسفية العقلية الذين يفتخرون بتقديم العقل على نصوص الشرع أو كما يفعل أصحاب الفكر المادي الذين يحاولون إخضاع الأحاديث لنتائج النظريات والبحوث التي يقومون بها.
وهذه النظريات في حقيقتها قابلة للصواب والخطأ ومعرضة للنقد والتغير كما حصل في معظم النظريات المعاصرة.